الواجب على العبد أن يرُد النصوص المتشابهة إلى النصوص المحكمة، ويأخذ من المحكم ما يفسِّر له المتشابه؛ لأنها كلَّها من عند الله جل جلاله، فلا تناقض ولا اختلاف بينها، وإنما التناقض من عند غيره.
قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7].
قال ابن القيم: (طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث؛ كالشافعي، والإمام أحمد، ومالك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، والبخاري، وإسحاق… أنهم يَردون المتشابه إلى المحكَم، ويأخذون من المحكم ما يُفسِّر لهم المتشابه ويُبينه لهم، فتتَّفق دَلالته مع دَلالة المحكَم، وتوافق النصوص بعضُها بعضًا، ويُصدِّق بعضُها بعضًا، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره).
وقال أيضًا: (إن الله سبحانه قسم الأدلة السمعية إلى قسمين: محكَم، ومتشابَه، وجعل المحكم أصلًا للمتشابه، وأُمًّا له يُردُّ إليه، فما خالَف ظاهرَ المحكم، فهو متشابَهٌ يُرَدُّ إلى المحكَم، وقد اتَّفق المسلمون على هذا، وأن المحكم هو الأصلُ، والمتشابهَ مردودٌ إليه).
♦ والمحكم: ما لا يحتمل إلا معنىً واحدًا.
♦ والمتشابه: ما يحتمل أكثر من معنى.
مثال [1]: قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ ﴾ [مريم: 40]، ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى ﴾ [يس: 12] – متشابه؛ حيث إن الضمير(نحن) يحتمل أحد احتمالين:
الأول: أنه للجماعة.
الثاني: أنه للمفرد المعظَّم.
والاحتمال الأول مستحيل في حقِّ الله سبحانه وتعالى، لذا تعيَّن أن نردَّ هذه الآية المتشابهة إلى الآية المحكمة، وهي قول الله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، وقول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الأنعام: 19].
مثال [2]: قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 53]متشابَهٌ؛ حيث إنه يحتمل احتمالين:
الأول: أن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن لم يَتُب.
الثاني: أن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب فقط.
والاحتمال الأول ممتنع؛ لذا تعيَّن أن نردَّ هذه الآية المتشابهة إلى المحكم، وهو قول الله تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82].
مثال [3]: قول الله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]، متشابه؛ حيث إن كلمة (قُرُوءٍ) تَحتمل احتمالين:
الأول: الطُّهر.
الثاني: الحيض.
يُحمل لفظ (قُرُوءٍ) على المعنى الثاني، وهو الحيض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا)).
مثال [4]: قول الله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 43]متشابهٌ؛ حيث إن كيفية الصلاة والزكاة مجهولتان؛ لذا تعيَّن أن نَردَّ هذه الآية المتشابهة إلى الأحاديث المحكمة الواردة في كيفية إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
فائدة [1]: وصف الله جل جلاله القرآن كله بأنه محكَم، ووصفَه بأن كلَّه متشابَه، ووصفَه بأن منه محكَم ومنه متشابَه.
قال تعالى: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾ [هود: 1].
وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ﴾ [الزمر: 23].
وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [آل عمران: 7].
♦ فالآية الأولى وصف الله القرآن كلَّه بأنه محكَم.
♦ وفي الآية الثانية وصفه كلَّه بأنه متشابَه.
♦ وفي الآية الثالثة وصف بعضَه بأنه محكَم، وبعضَه بأنه متشابَه.
والقرآنُ كلُّه محكَم بمعنى الإتقان.
والقرآنُ كلُّه متشابَه بمعنى تماثُلِ الكلام وتناسُبِه، بحيث يصدِّق بعضُه بعضًا، فإذا أمر بأمرٍ لم يأمُر بنقيضه في موضع آخرَ، بل يأمر به، أو بنظيره، أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيءٍ لم يأمر به في موضع آخرَ، بل ينهى عنه، أو عن نظيره، أو عن لوازمه، إذا لم يكن هناك نسخ.
والقرآن منه محكم، ومنه متشابه، هذا هو المراد هنا.
فائدة [2]: التشابه قد يكون أمرًا نسبيًّا.
بحيث يُشتبه على بعض الناس دون بعض، فقد يُتَشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثَمَّ آيات محكمات لا تشابه فيها على أحدٍ، وتلك المتشابهات إذا عُرِف معناها صارت غير متشابهة.